الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

ثقافة القسوة د. أحمد خالد توفيق

فعلاً لابد أن تشعر بشيء من الخجل والذنب وأنت تكتب هذا المقال، لأنك تعرف أن الناس لديها ما يكفي من المشاكل، وأنهم قد يضمونك إلي ذلك الذي يحتج علي وقف استيراد الكافيار وذلك الذي لا يجد - ياي - نوعًا جيدًا من الفواجراه، لكن الأمر محزن فعلاً ويتلخص في أننا - المصريين - من أقسي شعوب الأرض علي الحيوانات.
أذكر وأنا تلميذ في المدرسة الابتدائية أنني كنت عائدًا لداري، فرأيت مجموعة صبية يتقدمون نحو حمار يأكل مربوطًا لعربة «كارو». تأكدوا من أن صاحب العربة ليس قريبًا ثم .. لم أصدق ما رأيت حتي أنني ظللت واقفًا كتمثال أبله لخمس دقائق. .. لقد غرس أحدهم بكل قوته عصا مدببة في عين الحمار حتي فقأها! وانفجروا يضحكون وركضوا فارين. .. يا ليتك رأيت وسمعت ما فعله هذا الحيوان الأعجم وهو يكافح الألم. ولا تسأل عما رآه صاحبه عندما عاد، لأنني كنت قد فررت بدوري متوقعًا أن يمزق الرجل أول صبي يجده في المكان.بلاش دي.. خذ ذلك العامل في المستشفي وهو يحكي لي عيناه تلمعان كيف وضع كلبًا صغيرًا في كيس وربطه وأغرقه في الترعة في قريتهم! يتكلم بفخر كأنه قضي علي الجوع والفقر والمرض بضربة لازب .. تمنيت لو أن كلبًا عملاقًا بحجم كينج كونج يمسك بهذا العامل وعياله ليغرقهم في الترعة ليروا كم أن هذا مضحك.. وهل رأيت في قناة الجزيرة تاجر الفراخ الذي يسكب الكيروسين علي الكتاكيت الحية ثم يشعل فيها النار ويراقبها في استمتاع وهي تحترق؟. هل رأيت علي الإنترنت الحمار الذي ثقلت حمولة العربة به فسقطت للخلف وظل هو معلقًا في الهواء ينتظر الفرج؟.. في حديقة الحيوان رأيت أطفالاً يحملون قطة صغيرة تموء مصرين علي رميها للبجع علي سبيل التلذذ بالمشهد الدامي، ولولا الحارس الذي احتفظ بآدميته وصاح فيهم: » حرام عليكو.. دي مش روح؟» لفعلوا ذلك.. دعك من الهواية الجديدة التي يمارسها الأطفال وهي قطع أطراف الكلاب والقطط بالشاطور، وهم بالطبع ورثوا هذه القسوة عن آبائهم!قسوة لا يمكن وصفها فإذا فتحت فمك انفجروا يضحكون في استخفاف. كلما طالبت بالرحمة بالحيوان قالوا لك : «ارحموا البشر أولاً»، وكأنك تطالب بتعذيب البشر كبديل رخيص. أو قالوا لك: «الناس غلبانة».. نعم .. لكن ما علاقة الغلب بفقء عيون الحمير وهي تأكل؟.. لو كان هذا يقضي علي الفقر فلسوف أفقأ عيون كل الحمير في القري المحيطة بمدينتي. إنما منطقهم هو : «نحن نتعذب .. فليتعذبوا كذلك مثلنا!»«أمينة أباظة» .. هل تعرف هذا الاسم؟.. إنها سيدة باسلة كرَّست حياتها للدفاع عن حقوق الحيوان، متحملة العبارة الدائمة التي تقابلها في كل مكان «مش لما نلاقي حد يدافع عن حقوق الإنسان الأول؟». كلام سليم وصادق، لكن الحقيقة القاسية هي أن من لا يرحم الحيوان لا يرحم الإنسان كذلك، وأن القسوة لا تتجزأ .. خلاصة الأمر هو داء اسمه «القسوة علي من لا يستطيع أن يؤذيك» سواء أكان قطًا أم امرأة عجوزاً تتسول. ..ثم من قال إنه لا وقت لدينا للرف- قامتوان لأننا مشغولون بما هو أهم؟. الواقع يقول إننا نقسو علي الاثنين معًا..«أمينة أباظة» - التي لم ألقها قط - قامت بإنشاء ملجأ للحيوانات المعاقة اسمه «SPARE» اختصار موفق لاسم جمعية الحفاظ علي حقوق الحيوان في مصر وله سمعة دولية حسنة فعلاً. الانطباع الأول الذي يتركه الموضوع هو أنه نشاط من أنشطة سيدات المعادي شبيه بأندية الروتاري والجمعيات النسائية إياها حيث تلتقي ناظلي هانم مع فريدة هانم للمطالبة بزرع أشجار البتونيا، لكنك لو دخلت الموقع لرأيت هذه السيدة الراقية تحتضن حيوانات متسخة سيئة التغذية يسيل الدم من قروحها.. حيوانات لا يجرؤ كاتب هذا المقال علي لمسها. هناك في الموقع قصص قاسية حتي بالنسبة لنا مثل ذلك الجزار السادي الذي قطع ذيل كلب بالشاطور! وجدته سيدة أجنبية اسمها «ماري كاستيللي» والأطفال يضربونه بالعصي كالعادة - فكر في الفضيحة العالمية - من ثم أخذته لملجأ الحيوانات. كلب آخر رقبته مقطوعة تقريبًا لأن السلسلة ظلت علي عنقه عامًا .. هناك حمار يجر عربة ثقيلة لمدة عام مع أن رجله مكسورة، فاشترته السيدة فورًا، وقد رأي الطبيب البيطري أنه لابد من إعدامه الرحيم euthanasia، لكن الحمار تحسَّن واستعاد صحته قبل موعد الإعدام! .. كما أنها في عام 2005 جربت طريقة فريدة رحيمة للحد من أخطار كلاب الشارع في مدينتي الأقصر والغردقة بلا تسميم بالسيانيد ولا طلقات رصاص تقعد الكلاب ولا تقتلها، ولم تكلف الدولة مليمًا لأن فريقًا من الخارج تطوع للقيام بهذا.صارت «أمينة أباظة» سفيرة مصر لحماية حقوق الحيوان، ومن اختارها هي الهيئة الدولية ليوم الحيوان العالمي. قبل هذا كرَّمتها جمعيات ألمانية وأسترالية. وتقول في حديث نشرته جريدة «المصري اليوم»: «إن هذا عمل جريء لأن المطالبة بتطبيق حقوق الحيوان التي تعد في الأصل حقوقاً سماوية ينظر إليها في الثقافة المصرية علي أنها «هيافة»». طبعًا اصطدمت مع الدولة مرارًا خاصة وزارتي الزراعة والداخلية، وبدت بالنسبة للحكومة جاسوساً مصَّراً علي فضحنا أمام العالم، ناسين أن السياح يكتبون عنا كلامًا «زي الطين» عندما يرون معاملة الحيوان عندنا.. ذات مرة شكت في قسم الشرطة حوذيًا يسيء معاملة حماره، فاتهمها الضابط بالجنون علي حد قولها وقال : «حمارُه وهو حر فيه» .. ولم ينسوا لها أنها السبب في أن استراليا امتنعت عن تصدير الماشية الحية لنا، بعد ما عرض هناك فيلم فيديو يصور ما يحدث للحيوانات في مجازرنا وهي تساق للذبح! اكتشفت كذلك الكثير من القسوة في حدائق الحيوان، ومنها أن الحمير التي سيتم تقديمها طعامًا للأسود تحرم من الطعام خمسة أيام أو أكثر من منطق «مش حتموت؟.. يبقي خسارة الأكل فيها». تصور أن تجيع حيوانًا لا حول له ولا قوة علي سبيل الاستخسار، وأنت عندك حديث شريف واضح يقول: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض». رواه البخاري «3140» ومسلم « 2242 ». كلنا نحفظ هذا الحديث منذ نعومة أظفارنا، لكن لماذا نتكلم عن الدين طيلة الوقت ثم نتوقف عندما تأتي سيرة الحيوان؟.. هل هذا الحديث صحيح أم لا؟.. لو كان صحيحًا - وهو كذلك - فنحن نخالفه علي طول الخط. وماذا عن «في كل كبد رطبة أجر»؟. لماذا لم أسمع في حياتي خطيب مسجد يدعو للرفق بالحيوان، مع علمي أنه ما من رسالة سلوكية يمكن أن تصل في مصر إلا لو ارتدت عباءة دينية. يعني لن تنشر أي ثقافة مرورية أو حضارية أو صحية ما لم تستخدم الدين، وهو شيء فهمه نابليون بونابرت ببراعة، فماذا عن نشر رسالة صحيحة يدعونا لها الدين فعلاً؟فطنت «أمينة أباظة» إلي أن الحل يبدأ من المدرسة ومن التليفزيون، وهذا ما تحاول جاهدة أن تفعله لكنها تصطدم بصخور البيروقراطية وصخور «دي ناس فاضية» الشهيرة.. سيدة عظيمة هي تعطي لمصر واجهة مشرقة حضارية بدلاً من صورة البلد الذي تحترق فيه المسارح وتزور الانتخابات ويخطف السياح. وإلي أن تقرر سيدة شجاعة أخري أن تنشئ «جمعية الرفق بالإنسان» فعلينا أن نؤيد هذه الجمعية وأن نبدأ بأنفسنا.