الخميس، 14 أغسطس 2008

د.أحمد خالد توفيق في بلد البقشيش: عندما يتحول التبول إلى مهنة

هناك نكتة قديمة لا أجسر على سردها حرفيًا عن بلدياتنا الذي جاء إلى القاهرة، وحسب من فرط سذاجته أن استعمال دورات المياه يكلف مالاً.. هذه النكتة ألفها على الأرجح أحد الحشاشين من محترفي تأليف النكات منذ ثلاثين عامًا وهو لا يتصور أن تتحقق نبوءته حرفيًا اليوم. تعال معي الآن وادخل الحمام العمومي في هذا المكان أو ذاك لتجد ذلك الشاب أو الرجل الذي يستقبلك بابتسامة مداهنة، ورأس ماله هو لفة من ورق التواليت .. ومظهر الشاب يختلف من الحمامات المتسخة إلى الحمامات الفاخرة في الفنادق والمولات .. تخرج من الحمام فيلقاك بنفس الابتسامة و(أي خدمة) ثم يناولك قطعة من لفافة الورق تلك أو قطعة صابون صغيرة معطرة حسب الوضع الطبقي للمكان الذي اخترته. فإذا لم تدفع كان عليك تحمل نظرة السخرية والتنمر في عينيه .. هذا بالطبع ما لم يكن يملك حقًا رسميًا في تقاضي مبلغ مالي من المحافظة، مما يتيح له أن يملأ الدنيا صراخًا...

لا ننكر أن الحمامات العمومية صارت أنظف .. صار بوسعك أن تمارس حقك الفسيولوجي دون أن تصاب بالجنون الذهولي أو التهاب الأعصاب الطرفي، ويبدو أن هذا يمس قلب فكرة الخصخصة ذاتها في صورتها الحسنة، فالحمام صار له صاحب ولم يعد مشاعًا ولهذا صارت الخدمة أفضل ... لكنك لا تنكر الغصة التي تشعر بها في حلقك عندما ترى شابًا في ذروة سن الإنتاج لم تعد لديه وسيلة رزق إلا تقديم المناديل لمن يقضون حاجاتهم.. أن يصير التبول مهنة فهذا لا يحدث إلا في مصر.. وكم من مهن عجيبة أفرزتها الأوضاع الاقتصادية والبطالة .. وهي مهن يقنع أصحابها أنفسهم بأنها كذلك، لكنها كما هو واضح نوع مستتر أو واضح من التسول..

قديمًا قيل إن مصر هي بلد البقشيش، لكن الأمر لم يصل لهذه الدرجة المريعة فيما سبق .. كان هناك منادي السيارات الذي يظهر لك من حيث لا تدري عندما تدير محرك سيارتك ليأخذ قرشًا بالعافية .. رحم الله أديبنا الساخر (محمد عفيفي) الذي لو كان في أوروبا لأقيم له أكثر من تمثال في كل عاصمة باعتباره خليطًا متفردًا من مارك توين وبرنارد شو وأوسكار وايلد معًا. لقد وصف منادي السيارات قائلاً: "هذا الرجل يهين ذكائي .. كأنه لو لم يصدر تعليماته السخيفة لحدثت كارثة .. كأنه لو لم يقل (هات) لما جبت .. ولو لم يقل (بس) لصدمت السيارة التي أمامي وظللت أدفعها إلى الأبد".

اليوم ترى البقشيش في كل مكان تقريبًا .. شرطي المرور ينتظر ربع الجنيه من كل ميكروباص يمر به، ويعرف أقوياء الأعصاب كيف يدسون عشرة جنيهات في جيب أمين الشرطة – عندما ينظر ضابط الكمين إلى الناحية الأخرى - كي لا يأخذ الرخصة .. في بعض دور السينما قد تقول لك بائعة التذاكر بتحد: هناك جنيه رسم شباك .. وهناك من تختار لك أفضل الأماكن أمام الشاشة ثم تبتسم تلك الابتسامة التي تجمع بين الإغراء والتلطف والسخرية قائلة: أي خدمة .. وهو بقشيش يدير الرأس لو فكرت فيه .. ثلاث حفلات ومائة مشاهد في كل حفلة لو كان الفيلم من النوع (الهايف) الجذاب .. نحن نتحدث إذن عن عشرة آلاف جنيه شهريًا ولا أعتقد أن في هذه الأرقام مبالغة ..

في حديقة الحيوان يمكن للحيوانات أن تفعل أي شيء تطلبه مقابل بقشيش للحارس، والدب الجربان البائس الذي خلقه الله ليأكل اللحم ويرعب سهول (التايجا)، فعلموه أكل جذور البطاطا وقشر البطاطس.. تراه يوشك أن يضرب لك تعظيم سلام، ويقول: "ربنا يخلي لك العيال يا بيه".. وتنظر إلى الدب الأجرب وحارسه فتشعر أنهما من النوع نفسه .. كلاهما كان يستحق حياة أفضل سلبت منه بشكل ما .. من ثم تمد يدك لجيبك وتدفع المعلوم ..

هناك من يتلقى الإتاوات بتصريح رسمي من مجلس المدينة مثل بعض مناديي السيارات وسواهم، هنا تبرز لعبة جديدة هي عدم إعطاءك إيصالاً.. تطالب بحقك في إيصال فينظر لك نفس النظرة المشمئزة ويرمي لك الإيصال في قرف كأنه ملوث بالبول ..
الخلاصة أن الظاهرة تنمو وتتضخم وهي مرشحة للمزيد .. يومًا بعد يوم يتآكل ما بقى من الطبقة الوسطى لتهوي إلى أسفل، ومعها يذوب صمام أمان المجتمع .. الطبقة الوسطى التي تلعب في أي بلد دور قضبان الجرافيت في المفاعلات النووية ..أي انها تبطئ التفاعل المتسلسل وتمنع المفاعل من الانفجار. يومًا بعد يوم ينضم شاب جديد إلى طالبي البقشيش .. بالمناسبة .. هل تعرف وحياة والدك صاحب دار سينما ابن حلال يقبل أن يعين لشباك التذاكر رجلاً في العقد الخامس من عمره ؟


د.أحمد خالد توفيق