الأربعاء، 27 أغسطس 2008

أهي عيشة د. أحمد خالد توفيق

المستر «هاريس» يعيش في بيت ساحر في ضواحي «واشنطن». هناك حديقة وأرجوحة ومرآب وصندوق بريد كالذي تراه في القصص المصورة. لكنه لا يشعر بالسعادة تمامًا .. إن ابنته «إميلي» قد بدأت تتغير ومن ثم هو يعتقد أنها تتعاطي المخدرات.. لا يوجد دليل لكنه شعور داخليGut feeling كما يقول لزوجته باتريشيا. باتريشيا تعرف المخدرات جيدًا لأنها من الهيبي القدامي أيام حرب فيتنام وقد قابلها لأول مرة في احتفالات وودستوك الشهيرة، حيث مارسا الحب تحت الأمطار وهما يصغيان لأغنية «حرية» التي تخرج من أحبال «ريتشي هافنز» الصوتية المتحشرجة.. باتريشيا تقول إن إميلي لا تتعاطي وهو لا يصدق..
يدير محرك سيارته وينطلق في الشوارع الهادئة .. يجب أن يفكر جديًا في شراء دراجة كي يذيب هذه الدهون حول خصره وكي يقلل من تلوث البيئة..في الطريق رأي هؤلاء المتظاهرون ضد التسخين الحراري وقطع الأشجار، خَطَرَ له أن عليه أن يشارك في هذه المظاهرات ولو مرة؛ الحكومة الأمريكية الحالية لا تروق له ولا تقوم بعملها لحماية الكوكب، يكفي الجمهوريون ما نالوه وما جربوه علي مدي فترتي رئاسة.. لا يجب أن ننتظر أكثر ..بعد يوم شاق من العمل قاد سيارته إلي عيادة د. «مورجان».. لن يخبر أحداً بهذه الزيارة..د. «مورجان» فحصه جيدًا وتفحص تقارير الأشعة ودلائل الأورام ثم جس البروستاتا من الشرج.. قال له بطريقة الجراحين الأمريكيين الباردة وهو ينزع القفاز:ـ«سرطان بروستاتا متقدم، لكننا لم نضيع الفرصة بعد .. سوف نجرب العلاج بالهرمونات».قال مستر «هاريس» وهو يغطي عينيه:ـ«ما هي فرصتي في النجاة ؟»ببرود قال د.«مورجان»:ـ«ضعيفة .. لكننا لن نضيعها ..»غادر هاريس العيادة شاعرًا بأسف عميق.. كلما فكر في رحلة التقاعد إلي هاواي وإلي الشرق أحس بغصة.. لقد تمني طيلة حياته أن يتسلق الهرم وأن يدخل معبدًا بوذيًا تنتشر في أرجائه رائحة البخور. تمني أن يذهب إلي هاواي ليلبس قميصًا مشجراً وتلف فتيات الهولا عقدًا من الورود حول عنقه.. هذا الحلم قد يقضي عليه سرطان بروستاتا اللعين.ونظرلنفسه:حديقة العامة حيث جلست أم شابة تداعب كلبها وتدس لقيمات في فمه، بينما طفلتها الشقراء الجميلة تزحف محاولة أن تقتنص بعض اليعاسيب التي تطير هنا وهناك..قال لنفسه : الحياة جميلة تستحق أن تُعاش .. سوف أقهر تلك الخلايا المجنونة.. . سوف أنتصر علي المرض، وأسافر إلي أطراف الأرض بحثًا عن دواء.في الوقت ذاته يصحو «محمد بيومي» من نومه..لا توجد مياه في الصنبور كما هي العادة، والواد تأخر في طابور الخبز .. المفترض أن يكون قد أحضر العيش والطعمية منذ نصف ساعة لكن لا وقت للإفطار الآن .. معجزة يومية هي أن يعود الولد حيًا وسط كل المشاجرات والضرب في طابور الخبز، لكن الولد لم يمت حتي الآن..«عواطف» تظهر من مكان ما .. كعهده بها شرسة متعكرة المزاج تعاني الحرمان الجنسي ولسان حالها يقول: قطيعة تقطعهم.. رجالة إيه دول؟تطلب منه فلوس الدروس للعيال والبلح.منه شراء أحذية جديدة للواد والبت.. تطلب منه شراء حاجات رمضان والبلح .. قلت إن لك صديقًا سيحضر نوعًا جيدًا من البلح ونمنا علي آذاننا بينما رمضان علي الأبواب.. سنمضي رمضان من غير بلح منك لله ياشيخ.. .يلبس ثيابه بسرعة وينزل.. علي مدخل البيت هناك فأر، بقر أحدهم أحشاءه فغطت الرصيف وهناك قطة ميتة متعفنة.. البكابورت طفح للمرة السادسة مع أنهم دفعوا لعمال البلدية. يجب أن تختبر رشاقتك البهلوانية في المشي فوق قوالب الطوب التي ألقاها أولاد الحلال هنا وهناك.. لو سقطت فوقعتك سوداء لأن هذا ليس ماء!يركب الميكروباص الذي ينهب الطرق نهبًا وسائقه الذي يحمل ندبة مطواة علي وجهه لا يكف عن الكلام عن «أم قانون المرور الجديد» الذي يتيح للحكومة أن تحلب من دمه 500 جنيه يوميًا. العرق والزحام .. ينظر خارج النافذة فيري سحابة سوداء تغطي المدينة والكل متجهم الوجه يبحث عن مشاجرة أو رأس يفتحها. السائق يتوقف بالميكرباص في منتصف المسافة مصرًا علي أن هذه نهاية الخط.. من أراد الوصول للهرم يدفع أجرة ثانية .. في مصلحة «المجاري العمومية» التي يعفيها يختلس نظرة للجريدة التي علي مكتب صديقه، فيجد أن العناوين كلها تتحدث عن حريق مجلس الشوري.. الدولة عاجزة عن حماية ثاني أهم مؤسسة فيها، وبرغم هذا كان يكفي أن تمر هناك وتتمهل حتي يبرز لك أكثر من رجل شرطة يوشك علي تفجير رأسك. ورياضيونا كلهم خابوا خيبة فقراء اليهود في الأولمبياد، وبرغم هذا تجد الأخبار عن الخلافات في الجبلاية والصراعات في ميت عقبة والعضو كذا يهدد بالاستقالة واللجوء للقضاء و.. وكأنهم يشرفون علي منتخب العالم .. جعجعة بلا طحن .. كادر للمدرسين وتبرئة مسئولي العبارة وهايدلينا، وأيمن نور يكتب من زنزانته التي يبدو أنها لن تفتح أبداً..في المساء يذهب إلي المشوار الذي يخشاه.. الموعد مع ذلك الطبيب الشهير الذي يرغمه علي إعادة التحاليل كلها في معمل زوجته، والأشعات كلها لدي صديقه .. ثمن الكشف 400 جنيه. يتفحص الطبيب الأشعات والتحاليل ثم يقول في تؤدة:ـ«تليف متقدم للكبد بسبب الفيروس سي .. بصراحة أنت بحاجة إلي زرع كبد.. . لم تعد العلاجات تصلح.. . لا يمكنك السفر للصين، لأنها أوقفت هذالنشاط.. . هناك باب خلفي هو التبرع للحزب الشيوعي الصيني لكن لا يبدو لي أنك قادر علي هذا».يسأل الطبيب في لهفة:ـ«كم تتكلف عملية الزرع هنا في مصر ؟»هل كان هذا الذي قاله الطبيب هو تكلفة العملية فعلاً ؟.. هل هو يمزح ؟..عندما غادر العيادة نظر إلي أكوام القمامة .. إلي جثث الفئران.. . إلي الدخان والزحام وسائقي الميكروباص بالفتيات ولجان المرور إلي الشباب العاطل الذي يتسلي بالتحرش بالفتيات .. إلي العشرين صحفيًا الذين يتظاهرون أمام نقابتهم وحولهم 40 سيارة بوكس وألف جندي أمن مركزي.. إلي لجان المرور وطوابير الخبز .. إلي المجاري الطافحة.. عندها فقط أدرك أن الموت رخيص ومريح ويعد بالكثير من الآمال.. من حق الغربي أن يصاب بالذعر من الموت وأن يكافح كي يبقي حيًا، لأن الموت يعني فقدان اللوفر ومتحف مدام توسو وديزني لاند والحدائق المفتوحة في جنوب أفريقيا.. أما هو فالموت يعني له الخلاص من البكابورت ومن انقطاع المياه ومن السحابة السوداء وبرنامج «صباح الخير يا مصر»..قال لنفسه وهو يتذكر حياته الموشكة علي الانتهاء:ـ«آهي عيشة.. رائع إنه سعيد الحظ إلي الحد الذي يجعل الموت يأتيه قبل أن يدفع مصاريف المدارس ولوازم رمضان والدروس الخصوصية .. سيكون هذا رائعًا .. وللمرة الأولي منذ استيقظ من النوم شعر بالسعادة وبدأ يضحك..