الخميس، 14 أغسطس 2008

د.أحمد خالد توفيق(إعلان زواج غير مشروط)

هذا إعلان غير مدفوع الأجر،أرجو من أولاد الحلال أن يأخذوه بجديةبرغم أنه يبدو أقرب للمزاح .. أبحث للواد ابني عن عروس مناسبة .. لا أشترط الجمالولا الأصل ولا الفصل ولا الأخلاق ولا الثقافة ولا التعليم ولا الدين ولا الطبعالهادئ ولا حسن التربية ولا السمعة الحسنة .. كل هذه الأشياء عرض زائل .. .. فقطلي شرط واحد هو أن يكون أبوها خطاطًا ممن يكتبون لافتات التأييد التي تعلق فيالشوارع .. ربما كانت سن ابني صغيرة جدًا لهذا لا أمانع أن ألهف أنا العروس فلاأعتقد ان المدام ستمانع خاصة إذا عرفت أسبابي ..
منذ أعوام فطنت إلى أن أكثرالمهن رواجًا في عالمنا العربي هي تفصيل العلمين الأمريكي والإسرائيلي، ويكفي أنتشاهد أية نشرة أو مؤتمر شعبي لتدرك أن آلاف الأمتار من القماش تحرق كل عام ..ومعها يتدفق الذهب في جيوب ترزية الأعلام لو كانت هناك مهنة كهذه ..
بعد فترة بدأت أدرك أن حياتناكمصريين لا تستقيم من دون لافتات ...لافتات مبايعة .. لافتات تأييد .. لافتاتتأييد للمؤيدين .. لافتات شتيمة في غير المؤيدين الذين لايؤيدون .. شعب يعيش حياتهباللافتات هو شعب صمم على أن يجعل الخطاطين أثرياء .. لم تكد تنتهي هوجةالانتخابات التي أصر المصريون بذكائهم الفطري الحاد على أنها مبايعة، حتى بدأتهوجة مجلس الشعب ..
هناك قصة طريفة عن مواطنبريطاني من ويلز كان يحتفظ بلافتة واحدة كتب عليها (يا للعار!).. وكان يرى أنهاتصلح لكل المناسبات باعتبار أن هناك دائمًا عارًا ما لابد من الاحتجاج عليه، ويقالإنه وجد نفسه في مشكلة حينما خرجت البلدة ترحب بعمدتها الجديد !.. هذه هي المرةالأولى التي لم يجد فيها لافتته صالحة ..
هذه القصة تريك الفكر العمليالاقتصادي الغربي .. لدى الرجل لافتة واحدة تصلح لكل شيء، ولو قررنا ان نقلد هذاالعبقري لاكتفينا بلافتة عملاقة تقول: "نؤيد ونبايع الرئيس الموجود حاليًاللأبد" .. وهكذا .. هناك دائمًا رئيسعلى حق دائمًا، وبهذا نوفر المليارات التي أنفقتها مصر على اللافتات ..
تمشي وسط المدينة فتدمياللافتات عينيك بقبحها وفظاظتها .. ضوضاءبصرية لا أول لها ولا آخر .. تدخل فنانوالجرافيك ليثبتوا أنهم استوعبوا عصر الكمبيوتر وأنهم يستطيعون ممارسة (النفاقالرقمي)، ليدخلوا مزجًا موفقًا بين صورة مبارك وبين الذي يؤيده لتوحي الصورة بأنهما صديقان حميمان .. ترى فيكل لافتة الرئيس ينظر للكاميرا باسمًا بينما يقف جواره الحاج (عبسميع)... لا تقرأالاسم لكنك تعرف انه الحاج (عبسميع) دائمًا .. تاجر حدايد أو أسمنت أو أعلاف أوقطع غيار سيارات.. بشاربه الرفيع وصلعته ولغده ونظرة الأجلاف في عينيه.. لا تحتاج لأن تكون من مباحث المخدرات كي تعرفأن الحاج (عبسميع) يتاجر في البانجو .. لا تحتاج أن تكون أخصائيًا اجتماعيًا كيتدرك أنه متزوج للمرة الثالثة من فتاة تصغره بعشرين سنة وأنه يتعاطى الفياجرابإفراط، وأن عنده سيارة (مرشيدس) .. لاتحتاج أن تكون طبيبًا نفسيًا كي تدرك أن صاحب هذا الوجه يحتفظ بدرجة من (البيدوفيليا)أو الميل غير الطبيعي للأطفال ولا مؤاخذة.. لا تحتاج أن ترى باقي الصورة حتى تدركأنه يمسك بسبحة في يده يعد عليها ملايينه ..
هذا هو الوجه الذي يطالعك عندالصباح وعند المساء، كأنها ليست لافتة تأييد بل لافتة مسمط يعرض إنتاجه من لحمةالراس .. واحد من ألف وجه مماثل تناثرتفي أرجاء مدينتك، يمزقون سلامك النفسي ويخدشون حياءك (هناك وجوه تخدش الحياء في حد ذاتها) وكلهم لفقصورته ليظهر جوار الرئيس كأنه من أخلص خلصائه .. وكل هذه الوجوه تصيح بحماس : نحنالمنتفعون !!.. البلد بلد أبونا .. وبإذنواحد أحد حناكلها والعة ..
إنهم يجعلون أية معارضة غيرذات قيمة ويجهضون أية كلمة موحدة، ولا عجب.. فهذا بلدهم وتلك مصالحهم وهم يدافعونعنها بكل مرتخص وغال .. نعم من القلب لزراعة البانجو .. نعم من القلب للاختلاس وغشحديد التسليح .. نعم من القلب للأطعمة الفاسدة المسرطنة .. نعم من أجل تجريفالأراضي .. نعم .. نعم .. نعم ....
ترى في وجوههم رائحة التهريبوالتأشيرات المضروبة والبانجو والمضاربة و.. و.. ترى في وجوههم كل ما أفقرك وعذبكوبهدل كرامتك وأهانك بين الدول وملأك بالخوف على مستقبل أطفالك وجعل أعزة أهلكاذلة.. ترى في وجوههم مستشفيات الحكومةمعدومة الإمكانيات والمدارس الخربة والإعلام الهايف وصفر المونديال والسفيرالإسرائيلي والمليارات التي يمرحون بها في الخارج ..
حتى عندما تبتكر هذه الوجوهشعارات انتخابية فهي تأتي فضيحة في حد ذاتها .. (دوس دوس .. إحنا معاك من غيرفلوس).. (طمن أبوك .. البورسعيدية حاينتخبوك)..(لا لفار الجمالية اللي عاوز يبقىرئيس جمهورية) .. هل هناك شعارات أكثرابتذالاً وسخفًا ؟... لو جئت بتشيكوف ونجيب محفوظ ودستويفسكي وديكنز واميل زولا،وأعددت لهم شايًا ثقيلاً مع اتنين كيلو كباب وطلبت منهم ابتكار شعار سوقي واحد فهلكان بوسعهم الوصول لشعارات كهذه ؟
لكن كل هذا الإنفاق يتجه فيالنهاية إلى جيب واحد هو جيب الخطاط .. ولما كانت العضمة قد كبرت فإنني استبعد أنتبلغ بي الحماسة درجة دخول مدرسة الخطوط (من اجل مستقبل باهر مشرق) .. لهذا قررت أنآخذ الثروة من المنبع وأطلب لابني يد بنتأي واحد من هؤلاء، فهم مستقبل هذا البلد كما كانوا ماضيه .. منذ كانت لافتاتالتأييد تنحت على الجرانيت ويوقع عليها الكاهن نخت أمون، إلى أن تصير لافتاتالتأييد مكتوبة بالليزر الذي يولده محرك بيولوجي ذو ذكاء صناعي..
خلاص ؟.. ترسل العطاءات فيمظاريف مغلقة إلى مقر الجريدة في موعد أقصاه آخر رمضان .. هذا بالطبع لو كانت هناكعطاءات ..
أعرف أنني بهذا أرسم لابنيمستقبلاً باهرًا ؛ فكل المهن يمكن الاستغناء عنها في مصر ما عدا مهنة الخطاط.. هذابالطبع ما لم ينضج المصريون يومًا ويكتفوا باقتناء لافتة واحدة كتب عليها (ياللعار !).