الخميس، 14 أغسطس 2008

د.أحمد خالد توفيق (هل الديمقراطية هي الحل ؟)

لو كنت أعمل في واحدة من تلك المؤسسات الغامضة التي مهمتها قياس الرأي في الشارع المصري (ولا تنشر نتائجها أبدًا)، فإن أول شخص سأقصده هو سائق التاكسي. هذا هو رجل الشارع بالمعنى الحرفي للكلمة .. رجل شقيان من الطبقة الوسطى يقضي وقته في السماع والتحليل والاستنتاج ولا يقرأ أبدًا وعنده تلتقي كل الشائعات ومنه تنطلق.. فقط دعه يتأكد من أنك لا تعمل في أمن الدولة وأنك غلبان مثله، عندها سوف يتكلم بصراحة ووضوح.. مصر تتمثل بدقة في المقهى وفي التاكسي وتحت الجميزة العجوز في قريتك ..

سائق تاكسي من هؤلاء قال لي بوضوح تام إنه لو تمت انتخابات نزيهة فلسوف ينتخب أي شخص يتكلم باسم الإسلام .. سألته في دهشة: أي شخص ؟.. قال: أي شخص يا بيه ..سألته: يعني لو (أبو مصعب الزرقاوي) رشح نفسه ستنتخبه ؟.. طبعًا يا بيه .. على الأقل هو بيقول قال الله وقال الرسول ...

هذا الكلام تسمعه في أكثر من مجلس ... نفس الذين هللوا فرحًا لأحداث سبتمبر يقولون اليوم إن أبا مصعب هو التطبيق الصحيح للإسلام .. "الإسلام الحقيقي هو بتاع طالبان" أو "ربنا ينصرك يا بن لادن !" .. فتوشك أنت على الجنون .. بعد كل هذا وكل ما صرنا إليه هناك من يصر على الرأي ذاته ؟

لقد تساءلت بعد أحداث سبتمبر عن شرعية قتل آمنين كل ذنبهم أن ذهبوا لعملهم صباحًا، فكان المهللون يضحكون بوجوه مشرقة مستبشرة ويقولون إن الطائرات ستنهمر على أوروبا قريبًا بإذن الله ... ما حدث هو أن الطائرات انهمرت لكن على العالم الإسلامي، واليوم تسعى امريكا جاهدة لأن تثبت أنها استحقت أحداث سبتمبر بأثر رجعي !.. يعني لو سقط البرجان اليوم لكان هذا مبررًا .. أما وقتها فلم يكن هناك مبرر واضح!

اليوم تجد أن رجل الشارع – من قابلتهم على الأقل فأنا لم أجر مسحًا ميدانيًا - يعتقد أن مذابح العراق عمل إسلامي صميم .. فمن سينتخبه هذا الرجل لو تمت انتخابات حرة ؟

الوجهة الأخرى من رأي رجل الشارع تحكيها القصة التالية: في الثمانينات كانت هناك انتخابات صاخبة بالغة الأهمية في مجلس الشعب .. وكنت أجلس في إحدى الوحدات الصحية مع كاتب الوحدة العجوز الطيب الذي يذكرك بصور (بابا نويل).. سألته عمن ينوي انتخابه، فقال في حكمة: مش حيفوز إلا الحكومة يا دكتور .. يعني أنا يبقى القلم في أيدي وأكتب نفسي تعيس ؟.. لا والله .. لازم اكتب نفسي سعيد ...

تأملت عبارته طويلاً وفكرت .. هذه هي الحكمة التي اختزنها المصري عبر قرون وقطرها وركزها .. هذا الرجل لم يقرأ كتابًا واحدًا في حياته لكنه آمن كرجل الشارع المصري أن الحكومة ستفوز ستفوز.. والفرعون الإله باق للأبد .. إذن فلنعد انتخابه .. و(إن جالك الغصب إعمله بجميله)...

يقولون إن قبائل البوشمان تملك حاسة التنبؤ وحاسة قراءة الأفكار، بينما الحضارة تنسف هاتين الحاستين نسفًا .. ويبدو أن القياس هنا صحيح أيضًا .. وأنا لا أتكلم عن الذكاء .. أتكلم عن غريزة فطرية تشعر المصري العادي بما ستتجه إليه الأمور .. وهي لا تخطئ أبدًا ..

إذن لو انتخب رجل الشارع بحرية فاختياره لن يخرج عن اثنين: النظام الحالي أو (أبو مصعب الزرقاوي).. والمشكلة أن كلا الخيارين لن يسمحا له بانتخاب شخص آخر .. هذه هي الحقيقة ... لقد تغير المواطن المصري وصار أميل للتطرف والعنف بعد ثلاثين عامًا من غسيل المخ .. لن تجد الفطرة الصادقة التي استلهمت طمي النيل وأمجاد الفراعنة تتكلم، بل ستجد خليطًا غريبًا من الضغوط الاقتصادية وشهوة المصالح وكلام مشايخ التكفير ..

في أغلب مواقع الإنترنت التي تجري استفتاءات لرئيس جمهورية جديد، فاز برئاسة الجمهورية إما (عمرو خالد) – وهو الأكثر نجاحًا - أو (القرضاوي) أو (أحمد زويل) وإحدى صحف المعارضة الناضجة سياسيًا رشحت (هيكل) !.. هذا عدم فهم واضح لعمل رئيس الجمهورية .. كل هذه شخصيات محترمة في مجالها لكن ما تاريخها السياسي وما قدراتها القيادية ..؟...مثلما كنا في المدرسة الابتدائية ننتخب أبرع التلاميذ في الرسم كي يدير اللجنة الفنية وكان يثبت دومًا أنه عاجز تمامًا عن أداء مهمته .. حكى (محمد حسنين هيكل) عن حواره مع الخميني عندما سأله عن مدى قدرة الأئمة على الحكم وهم لا يلمون بمجريات العصر الاقتصادية والسياسية ، فكان رد الخميني هو: "عندكم في العالم العربي يحكم الضباط .. فماذا يعرفون عن مجريات العصر الاقتصادية والسياسية ؟.. على الأقل الفقيه يتحرك من منطلق ديني واضح" .. هذا منطق لا بأس به، لكنه يبرر ارتكاب الخطأ بخطأ آخر .. ويشبه قولك: أنا أسرق لأن الآخرين يسرقون ..

شاهدت منذ أعوام الفيلم البريطاني (كرومويل) فوجدت كلامًا كثيرًا عن المعارضة ومحاولة الملك لعمل انقلاب برلماني .. الخ .. فقلت في دهشة: هؤلاء الناس يمارسون الحياة البرلمانية منذ 300 سنة حتى بلغوا هذا النضج، واحتاج النضج إلى أن يروى بالدماء وينضج على نار الحروب، بينما في مصر تجربتنا البرلمانية لم تتجاوز مائة عام كلها قبل ثورة 1952.. هل تشعر بأن النغمة مألوفة. ؟. هل سمعت هذا الكلام من قبل ؟.. كلام كهذا قاله أحمد نظيف حول أن الشعب المصري لم ينضج بعد للديمقراطية .. وكلام الرئيس مبارك حول أن الديمقراطية سوف تأتي بالمتطرفين الدينيين .. هذا كلام يبدو مستفزًا لكن هل يخلو من حقيقة ؟.. يمكنك أن تهاجمني كما تشاء لكن قلها بصدق .. هل هو خطأ تمامًا ؟

هل معنى هذا أن الديمقراطية لا تناسب الشعب المصري ؟... فليقطع لساني قبل أن أقول هذا.. لكني فعلاً أشعر بحيرة بالغة .. لا أملك ذرة ثقة في حكمة الجماهير الخالدة التي أنا منها، فهي الجماهير التي جاءت للسلطة في الخارج بهتلر وموسوليني ليصبغا الكرة الأرضية باللون الأحمر، وهي التي أعادت انتخاب الأحمق بوش برغم إجماعهم على أنه الأسوأ وأن أمريكا معه تنهار بسرعة غير مسبوقة ..

إذن ما الحل ؟.. لابد من ديمقراطية .. هذا هو صمام الأمان الوحيد لهذا المجتمع، لكنها سلاح خطر مع جماهير يرى معظمها أن الزرقاوي هو المسلم الوحيد صحيح الإيمان في هذا العصر، ومعنى مجيء شخص كهذا هو أن زمن الاختيار قد انتهى لأنه بالبداهة يرى أنه الأصلح وأن من يعترض عليه كافر .. إذن أنا أناقض نفسي وعبارتي تلتهم بعضها كتلك العبارات الثعبانية الكريتانية الشهيرة ..

أعتقد أن المخرج الوحيد من هذه المتاهة يكمن في الحصول على عقد اجتماعي صحيح يسمح للجماهير بمراجعة خياراتها من وقت لآخر .. عقد يجتمع عليه مفكرون من وزن جلال أمين وهيكل وهويدي وسواهم .. عقد لا يمكن خرقه أو نقضه ويجب التأكد من ذلك ..

وسوف تحتاج التجربة الديمقراطية إلى مائة عام من الخطأ والمران حتى تنضج، لكن يجب أن تستمر فلا يقصف عمرها حاكم جديد ونضطر أن نبدأ من جديد .. وهي لعنة العالم العربي الأبدية: البدء من جديد بلا أي تراكم للخبرات.